مسارنا نحو تحسين الوصول إلى المساعدة القانونية للفقراء والفئات الهشة في تونس

13 novembre 2024
un gros plan d'une scéne d'aide legal avec une illustration 2d

كان العمل على تطوير المساعدة القانونية في تونس مسارًا حقيقيًا نحو آفاق واسعة من التعلم، والتعاون، والإدماج. فمنذ نوفمبر 2023 حتى جويلية 2024، وفي إطار مشروع "المساعدة القانونية والحماية الاجتماعية" الذي ينفذ بالشراكة مع البنك الدولي وبدعم من مملكة هولندا، قام فريقنا بتنظيم 25 ورشة نقاشية جمعت 1270 ممثلا عن الفاعلين الرئيسيين في مجال المساعدة القانونية، من بينهم متدخلون اجتماعيون، وقضاة، وكتبة محاكم، ومحامون، ومندوبو حماية الطفولة، وممثلو مكاتب المساعدة الاجتماعية لدى السجون، وممثلين عن اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب.  تستند هذه الورشات إلى التجربة المكتسبة في عام 2023 بالشراكة مع برنامج دعم إصلاح العدالة (PARJ).

وقد شكّلت هذه الورشات فضاء للنقاش حول آليات المساعدة القانونية ومثلت فرصة لمد جسور التواصل بين قطاعي العدالة والحماية الاجتماعية. 

un groupe de personnes assises à une table avec

 

أين تكمن أهمية فهم السياق؟

   يعد النفاذ إلى العدالة في تونس تحديًا جسيماً، لاسيما للفئات الأكثر هشاشة. فرغم وجود منظومة للمساعدة القانونية، أرستها الدولة منذ سنوات، إلا أن الإعانات القانونية والعدلية والقضائية لاتزال غير معروفة لدى الكثيرين ونادرًا ما يتم الوصول إليها بالقدر الكافي. لقد كانت مهمتنا واضحة وجليّة: ألا وهي تمكين المتدخلين الاجتماعيين والفاعلين في مجال العدالة من إسداء خدمات المساعدة القانونية للفئات المهمشة بشكل أفضل، خاصة لأولئك الذين قد يفقدون السند القانوني أو يضطرون إلى التخلي عن حقوقهم إن لم يتمكنوا من النفاذ إلى هذه المساعدة.

 ومن الأمثلة البارزة التي تم طرحها خلال الورشات والتي شهدها عدد من المتدخلين، قصة أرملة أربعينية تعيش في منطقة ريفية نائية شمال غرب البلاد، تدهورت حالتها المادية إثر وفاة زوجها، لا تكاد تفقه شيئا من حقوقها في إرث زوجها الراحل ولا تملك القدرة على تكليف محامٍ ليمثلها. مثلت قصتها فرصة لتسليط الضوء على التحديات التي واجهتها للمطالبة باستعادة حقها في الإرث. فقد كانت تقطن على بُعد 80 كيلومتراً من أقرب محكمة، وافتقارها للموارد اللازمة للتنقل، حال دون تمكينها من استرداد حقوقها. لم تكن حينها قد تعرفت بعد على خدمات المساعدة القانونية المجانية الموجهة لفائدة ذوي الدخل المحدود والفئات الهشة قبل أن يخبرها أحد المتدخلين الاجتماعيين بوجود هذه المنظومة، والتي أقبلت بتوجيه منه على المطالبة بها ومن ثم الولوج إلى خدمات محامٍ وعدل منفذ وخبير، جميعهم تكفلت الدولة بتغطية أتعابهم، لتتمكن على إثر ذلك من الحصول على حقوقها في الميراث. 

أبرزت هذه القصة التحديات الجسيمة التي تواجه الفئات الضعيفة، وخاصة في المناطق الريفية، حيث تبقى خدمات المساعدة القانونية محدودة أو شبه منعدمة. من هنا تكتسب مبادرتنا كل معانيها، إذ نسعى من خلالها إلى التقليص من الفوارق وتحقيق العدالة الاجتماعية وتمكين الجميع من النفاذ إلى العدالة.   ويعمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن كثب مع البنك الدولي وبالتعاون مع المؤسسات التونسية لتعزيز آليات المساعدة القانونية العمومية، مما يتيح للمتداخلين في هذا المجال تطوير مهاراتهم وجعل خدماتهم أكثر جودة. ووفقًا لبعض الشهادات التي جمعناها من مسدي خدمات المساعدة القانونية، فإن تكاليف التقاضي قد تفوق أحيانا1000 دينار، وغالبا ما تشكل عبئًا ثقيلا على العديد من المواطنين، خاصةً في ظل العوائق الجغرافية والثقافية ونقص الوعي. كل هذه العقبات تزيد من تفاقم التهميش وتسهم إلى حد كبير في الإقصاء الاجتماعي. 

Un homme qui monte une colline avec un âne

 

نحو تعزيز التنسيق بين الأطراف الفاعلة

 كان الإقبال الكبير من المتدخلين والاخصائيين الاجتماعيين، في مختلف المناطق، من أبرز نقاط قوة تلك الورشات النقاشية، إذ يُعدّون نقطة الاتصال الأولى لأكثر من ثلاثة ملايين شخص يعيشون في ظروف صعبة وهشة. ورغم أهمية دورهم الحيوي كمرشدين في الصف الأول، فإن قلة معرفتهم بآليات المساعدة القانونية المتاحة تحول دون توجيه المستحقين نحو هذه الخدمات العمومية للمساعدة القانونية. وقد أجمع المشاركون في هذه الورشات على أهمية تعزيز التنسيق بين مكاتب الإعانة الاجتماعية. وقد أشار ممثلو مكاتب الإعانة العدلية من جهتهم إلى صعوبة تحديد أهلية معظم طالبي المساعدة بسبب نقص الوثائق الداعمة، ما دفع جميع الأطراف إلى التوصية بضرورة الاستعانة ببيانات برنامج "الأمان الاجتماعي" في تقييم مدى الهشاشة الاقتصادية لدى طالبي الخدمة وتحديد استحقاقهم للمساعدة القانونية على نحو أدق.  

وتجدر الإشارة إلى أن برنامج "الأمان الاجتماعي" يعتبر حديث الإنجاز، حيث أطلقته الدولة منذ سنة 2019 كجزء من إعادة هيكلة شاملة لبرنامج مساعدة العائلات المعوزة الذي انطلق منذ عام 1986. ومع تفعيل هذا البرنامج بدأت العديد من المؤسسات تدرك أهمية الاستفادة من قاعدة بياناته كأداة تساعد على تحسين استهداف الفئات الهشة بشكل دقيق وفعال.    كما أكد المشاركون في الورشات على ضرورة وجود إطار مؤسساتي منظم يضبط التعاون بين قطاعي العدالة والشؤون الاجتماعية، لضمان وصول الفئات الهشة إلى حقوقها بسهولة وفعالية. ويُعدّ هذا التنسيق بين مختلف الفاعلين في القطاعين الاجتماعي والقضائي ضروريًا في كل مراحل تقديم المساعدة القانونية، خاصة في المراحل التمهيدية التي تشمل استقبال المستحقين، وتزويدهم بالمعلومات وتوجيههم نحو الجهات المختصة. 

 أما فيما يتعلق بالنساء ضحايا العنف، فإن توجيههن من قِبل المتدخلين الاجتماعيين نحو مكاتب الإعانة   يُعتبر خطوة حاسمة لتفعيل إجراءات المساعدة القانونية، مما يُسهم في تسهيل وصولهن إلى العدالة وحمايتهن. 

des personnes  assissent à une table ronde qui discutent

 

التحديات والآفاق المستقبلية 

 رغم التقدم الذي تم تحقيقه، لا تزال العديد من التحديات قائمة. ومن أبرزها غياب التنسيق في تبادل المعلومات والبيانات بين قطاعي الحماية الاجتماعية والعدالة، مما يؤدي إلى غياب اطلاع المتدخلين الاجتماعيين على الآليات والإجراءات القانونية المتاحة، بينما لا يمتلك الفاعلون في مجال العدالة معلومات كافيًة حول الواقع الاجتماعي المعقد الذي تعيشه بعض الفئات الهشة. هذه الفجوة تُسهم في تشرذم الخدمات، وتُعرّض الأشخاص الأكثر ضعفًا، خصوصًا المحتاجين منهم إلى المساعدة القانونية، لخطر الإهمال والتخلف عن الركب أو الحرمان من الحقوق. 

 ومن بين أبرز التحديات القائمة، جهل أغلب المواطنين بمنظومة المساعدة القانونية على عكس المساعدات الاجتماعية المالية أو العينية. ويرجع هذا العزوف إلى نقص الوعي بآليات المساعدة القانونية، مما يبرز الحاجة الملحة إلى مزيد تعزيز التواصل بأكثر فاعلية لتوعية الفئات الهشة. فعلى سبيل المثال، يروي أحد المتدخلين الاجتماعيين قصة شاب متهم بجنحة بصفاقس، تسلط الضوء على العواقب المأساوية لنقص المعرفة والوعي. ولأن الشاب لم يكن مدركا حينها لحقوقه ولم تكن لديه القدرة على تكليف محام للدفاع عنه، تمت إدانته بالسجن. ولم يكتشف الشاب وجود إعانة عدلية مجانية إلا بعد دخوله السجن، وكان ذلك بمحض الصدفة. 

أما فيما يخص الفئات الخصوصية، مثل النساء ضحايا العنف، وضحايا الاتجار بالبشر أو ضحايا الإرهاب، فإن المساعدة القانونية المتاحة لها تظل مجهولة رغم وجود أطر قانونية خاصة بها. هذا القصور يحدّ من فرص هؤلاء الضحايا في اللجوء إلى القضاء بإنصاف، رغم الحماية التي توفرها لهم القوانين.   وفي شهادة أخرى، تحدّث أحد الاخصائيين الاجتماعيين عن قصة أم لثلاثة أطفال كانت تتعرض للعنف الأسري، قد ترددت لسنوات في الانفصال عن زوجها بسبب خوفها من عدم قدرتها على إعالة أطفالها بمفردها. ولم تكتشف أنها مؤهلة للحصول على الاستفادة من الاعانة العدلية بصورة آلية وفورية وغير مشروطة إلا بعد إحالتها على أخصائية اجتماعية كانت قد أرشدتها لهذا الحق، مما مكّنها من التقدم إلى القضاء لطلب حقها في حضانة الأطفال والحصول على أمر حماية من قِبَل قاضي الأسرة. 

من جهة أخرى، تظل أتعاب المحامين عائقًا كبيرًا أمام فعالية المساعدة القانونية. إذ يرى المحامون المعيّنون في إطار الاعانة العدلية أو القضائية أن أتعابهم غير مجزية، مما يثنيهم عن قبول العديد من القضايا ذات الصلة. وقد أثار المشاركون في النقاشات الحاجة الملحة والعاجلة إلى مراجعة أتعاب المحامين وآليات خلاص أتعابهم لتحفيز مشاركتهم في تسهيل الوصول إلى العدالة. مثل هذه الإصلاحات قد تسهم في تحسين وصول الفئات الهشة إلى العدالة، وإعادة بناء الثقة لدى المتقاضين.

 الدروس المستخلصة والتوصيات   

في ختام الورشات النقاشية الخمس والعشرين، بات من الواضح أن المبادرة قد أثارت اهتمام كافة الجهات الفاعلة في مجال المساعدة القانونية بضرورة إرساء مقاربة مندمجة بين مختلف القطاعات لضمان مزيد من التنسيق والتكامل. فلا يمكن للمساعدة القانونية أن تحقق فعاليتها بمعزل عن باقي آليات المساعدة العمومية؛ إذ ينبغي إدماجها ضمن منظومة شاملة تتضمن الخدمات الاجتماعية، والرعاية الصحية، والتعليم، في إطار مقاربة مجتمعية تنخرط فيها كل الأطراف.   أصبح المتدخلون الاجتماعيون اليوم في مختلف المناطق أكثر وعيا بكيفية توجيه الأفراد ومساندتهم في الحصول على المساعدة القانونية، بينما بات القضاة والمحامون وكتبة المحاكم أكثر دراية بالآليات الاجتماعية التي تخدم الفئات الهشة. ولضمان النفاذ الفعّال إلى العدالة للفئات الضعيفة، نوصي باتخاذ الإجراءات التالية: 

 1. تعزيز التواصل مع السكان: يعتقد حوالي 75% من التونسيين الذين شملهم استطلاع رأي أن وسائل الإعلام يجب أن تلعب دورا رئيسيا في إعلام الفئات الضعيفة من السكان بحقوقهم وآليات المساعدة القانونية المتاحة.  

 2. تعزيز تكوين المهنيين: يجب تكوين الجهات الفاعلة في مجال المساعدة القانونية بصفة منتظمة، لا سيما في مجالات الاستماع والتعاطف والتواصل وإدارة الأزمات. حيث أعرب ما يقرب من 95% من المشاركين في الورشات عن هذه الحاجة.   3.

 تحسين التنسيق بين المؤسسات: يمكن أن يؤدي الادماج الأفضل لبرنامج "الأمان الاجتماعي" في منظومة المساعدة القانونية إلى تحسين تغطية هذه المساعدة وتسهيل الحصول عليها.   

4. مراجعة أتعاب المحامين: إن توفير أتعاب ملائمة قريبة من الأتعاب العادية سيشجع المحامين على قبول المزيد من القضايا المتعلقة بالمساعدة القانونية، ويساهم في تحسين جودة الخدمات المسداة. 

 5. تبسيط الإجراءات: من الضروري جعل إجراءات الوصول إلى المساعدة القانونية أكثر بساطة وسرعة.   

6. تعزيز الوصول إلى المساعدة القانونية للمودعين بالسجن: وذلك من خلال تعزيز قدرات مكاتب المساعدة الاجتماعية داخل السجون، وتحسين وعي المودعين بالسجن بحقوقهم في الوصول إلى العدالة.