تعاني بلدة تل عباس الغربي الكائنة في شمال غرب لبنان من شحّ المياه. ومن المفترض أن تكون مياه نهر الأسطوان القريب من البلدة كافية لريّ الأراضي التي تلفحها أشعة الشمس الحارقة والتي تشكّل 85 في المئة من مساحة البلدة. ولكنّ مياه النهر تذهب هدراً قبل وصولها إلى حقول البطاطا والبصل والفاصولياء ما يهدّد سبل العيش بالنسبة إلى سكان البلدة البالغ عددهم 5,700 نسمة.

هذه المشكلة معروفة في لبنان. إذ لا تتجاوز مدة استفادة السكان من خدمات المياه بضعة ساعات في اليوم وعلى فترات غير منتظمة. وعلى غرار غالبية المناطق الريفيّة في لبنان، تعتمد تل عباس بشكلٍ كبير على الزراعة كمصدر رئيسيّ للدخل لذلك يتسبّب الوصول غير الموثوق إلى المياه بمعاناة شديدة للسكان.

وفي معرض تعليقه على هذا الأمر، قال مخايل إلياس، المزارع الذي ولد وتربّى في تل عباس الكائنة بالقرب من الحدودمع سوريا، والأب لثلاثة أولاد،: "نزرع محاصيلنا بشكل أساسيّ في الشتاء عندما تكون المياه متوافرة.أما في الصيف فنهجر أراضينا إذ تكون المياه غير كافية. وقد اضطر مخايل منذ عدة سنوات إلى حصر إنتاجه بمحاصيل أقل حاجة للمياه مثل الباذنجان والذرة واللوبياء. وأصبح جر المياه لري الأراضي والذي يعتبر ممارسة مكلفة وغير ملائمة للبيئة، مهمّة روتينيّة شاقّة.

قصّة مخايل ليست سوى مثال بسيط. فعلى الرغم من أنّ لبنان يتمتّع بموارد مياه أكثر من جيرانه، إلّا أنّ قدرته المنخفضة على تخزين المياه، والشبكات غير الفعّالة والتلّوث، تفرض جميعها ضغطاً على الإمدادات. وكان الطلب على المياه في خلال السنوات الماضية قد ارتفع مع استضافة البلاد نحو مليون لاجئ من سوريا.

موارد غير مُستغلّة

تعتبر الزراعة التي تشكّل 80 في المئة من الناتج المحليّ الإجماليّ في المناطق الأكثر فقراً في البلاد، كما هو الحال بالنسبة لمحافظة عكار حيث يعيش مخايل، أساسيّة لخفض الفقر وتحقيق النمو الاقتصاديّ. ولكن وبينما يُعتبر هذا القطاع المستهلك الأكبر للمياه في لبنان، تبقى إنتاجيّته منخفضة. ومن شأن تحسين الري وإعادة بناء القنوات والاستغناء عن الشبكات التي تعاني من التسرّب، أن يؤدي إلى زراعة متنوّعة تتسّم بقدرٍ أكبر من الكفاءة، وإلى مزيد من فرص العمل وسبل العيش المضمونة بالإضافة إلى تحقيق النمو الاقتصادي. يعني ذلك تعزيز التقدّم المُحرز على صعيد مقاصد متعدّدة لأهداف التنمية المستدامة ومن ضمنها: مضاعفة الإنتاجيّة الزراعية(المقصد 2.3)، ضمان وجود نظم إنتاج غذائي مستدامة(2.4)، الحفاظ على النمو الاقتصادي الفردي(8.1) وفي نهاية المطاف القضاء على الفقر المدقع(1.1). كما يعني تخفيف الضغط على موارد المياه الجوفيّة وخفض خطر تسرّب المياه المالحة والجفاف ما يسهم في تحقيق مقاصد أهداف التنمية المستدامة حول زيادة كفاءة استخدام المياه(6.4)، وحماية وترميم النظم الإيكولوجيّة المتصلة بالمياه (6.6) ومكفاحة التصحّر(15.3).

وفي هذا السياق يجري العمل في عدة مبادرات رامية إلى دعم الإدارة المتكاملة لموارد المياه في لبنان. وتهدف الاستراتيجيّة الوطنيّة لقطاع المياه في لبنان إلى ضمان توفير إمدادات المياه وخدمات الري والصرف الصحّي قبل عام 2020. وتعالج الاستراتيجيّة مشاكل البنية التحتيّة المتّصلة بالنقل والتوزيع ومعالجة مياه الصرف الصحيّ بالإضافة إلى مسائل إداريّة ومن ضمنها جوانب مؤسّسيّة وماليّة وقانونيّة وبيئيّة بما يتماشى مع أهداف التنمية المستدامة. وقد تم إطلاق مخطّط توجيهيّ لمنطقة عكار يعالج الطلب المتزايد على موارد المياه في السنوات الماضية والذي من شأنه المساهمة في تحقيق الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة ألا وهو ضمان توافر المياه وخدمات الصرف الصحيّ للجميع.

وقد استفاد مخايل و4,600 شخص آخر في تل عباس حتى الآن من إعادة بناء  نحو 8,000 متر من القنوات الترابيّة وتحويلها إلى إنشاءات إسمنتيّة دائمة ما يضمن وصول المياه إلى حقوق الملفوف والبطاطا والباذنجان من دون هدر. يقول مخايل: "يمكنني الآن زراعة جميع أنواع الخضروات في وقت أقل وفي مساحات أكبر. فذلك أكثر إنتاجيّة وربحيّة". تجدر الإشارة إلى أنّ تحسّن الوصول إليى المياه يعني إمكانيّة زراعة المزيد من المحاصيل المختلفة بما في ذلك محاصل الجزر والبصل والبندورة والخيار التي تستهلك الكثير من المياه. 

وعلى صعيدٍ آخر وفي جزءٍ آخر من البلدة، يقوم فريق يضمّ 60 رجل وإمرأة بنقل حمولة من العنب والأرضي شوكي إلى السوق المحليّة. ومن بينهم هنادي خضر عبدو. تقول هنادي: "أقوم بتوضيب الفاكهة والخضروات التي تحتاج إلى تعامل دقيق ومهارات محددة. ليس في وسع أيّ كان القيام بهذه المهمة". ومع توافر كمية أكبر من المياه، تعمل هنادي الآن سبع ساعات في اليوم عوضاً عن الساعات القليلة التي كانت تعمل خلالها في الصباح.

وقد أدت الاستفادة من موارد البلدة إلى خلق فرص عمل جديدة بالكامل بما في ذلك بالنسبة إلى اللاجئين. ومن بينهم حافظ النايب الحسين الذي قَدِم مع أسرته من سوريا إلى لبنان في عام 2013 ويقوم الآن بزارعة الأرض في تل عباس. قال حافظ: "انضم إليّ مؤخراً في العمل إبني البكر بسبب الحاجة إلى مزيد من الأشخاص في الحقول ما أدى إلى مضاعفة دخل أسرتنا".

هذه هي بعض نتائج مشروع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي مع وزارة الطاقة والمياه اللبنانيّة والوزارة الاتحاديّة الألمانيّة للتعاون الاقتصاديّ وبنك التنمية الألماني لتحسين إدارة المياه وتأمين سبل العيش في أربع بلدات في محافظة عكار. ويعني تحسين نظام الري الذي أصبح يشمل نحو 80 في المئة من أراضي تل عباس، أن المزارعين لن يضطروا بعد الآن إلى شراء المياه من مصادر أخرى. ومع وصول مياه نهر الإسطوان إلى مزيد من الأراضي، زاد المزارعون استثماراتهم وأصبحوا يزرعون أراضيهم بكامل قدرتها على مدار العام.

المياه أساسيّة من أجل مستقبل مستدام

تشبه مسيرة لبنان مسيرة العديد من الدول النامية الأخرى. حيث تعتبر الزراعة التي تشكّل نحو 70 في المئة من مسحوبات المياه العذبة العالمية، المستهلك الأكبر للمياه إلى حدٍ بعيد ما يؤدي إلى تفاقم الضغط على المياه ويؤثر على أكثر من ملياري شخص في أنحاء العالم. وبحسب التقرير التجميعيّ عن الهدف 6 من أهداف التنمية المستدامة حول المياه والصرف الصحي لعام 2018، قد تكون الزراعة جزءاً من الحل. إذ من شأن خفض استهلاك هذا القطاع للمياه أن يخفف إلى حدٍ كبير من الضغط على المياه في قطاعات أخرى، وأن يكون له آثار إيجابيّة تتخطى تحسن كفاءة استخدام المياه.

وفي هذا السياق، تضطلع الإدارة المتكاملة لموارد المياه بدور أساسيّ في هذا المجال إذ يعتبر الخبراء أنها ستكون إحدى الركائز لتحقيق الهدف السادس من أهداف التنمية المستدامة وتضمن تعزيز التعاون بشأن موارد المياه المحدودة. ولكن تشير التقديرات إلى أن معظم الدول لن تتمكن من تحقيق المقصد حول الإدارة المتكاملة لموارد المياه بحلول العام 2030 على الرغم من إحراز تقدّم بسيط منذ المسوحات السابقة في عامي 2007 و2011. هناك حاجة إلى قدرات، مؤسّسيّة وبشريّة، ناهيك عن موارد ماليّة وبنى حكم محسّنة بالإضافة إلى بيانات أفضل لوضع العالم على المسار الصحيح. واستناداً إلى استبيان الإبلاغ الذاتي يتناول مسائل مثل التمويل وأدوات وسياسات الإدارة، والخطط والقوانين، يبيّن التقرير التجميعيّ أن المعدّل العالميّ الحاليّ لتنفيذ الإدارة المتكاملة لموارد المياه يعتبر متوسطاً إلى منخفضاً إذ يصل إلى 48 في المئة.

وفي تموز/يوليو هذا العام، سيقدّم لبنان الذي سجّل هو الآخر معدلاً "متوسّط الانخفاض" في مجال  الإدارة المتكاملة لموارد المياه، استعراضه الوطني الطوعيّ الأول الذي يتناول التقدم الذي أحرزه لبنان في مجال أهداف التنمية المستدامة وذلك خلال المنتدى السياسي الرفيع المستوى في نيويورك. تجدر الإشارة إلى أنّ الحكومة قد اعتبرت بالفعل أنّ إدارة المياه أساسية لاستدامة القطاعات الاقتصاديّة الحيويّة بالنسبة إلى لبنان مثل الصناعة والسياحة والزراعة.