نرى أن الفرص تلوح في الأفق خلال فترة تفشي جائحة كورونا، و لا تراودنا أحلام اليقظة، بل نتعلم كيف نستكشف هذه الفرص ونجعل منها حقيقة ماثلة للعيان. مكنتنا عملية التعلم في مختبرات التسريع الإنمائية التابعة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق من استشعار واستكشاف وتمهيد الطريق لإجراء التجارب حول خاصية إضفاء الصفة الرقمية على طريقة تدريس المناهج الدراسية ورفع مستوى المهارات في التعليم العالي.
بالرغم من الجهود التي تم بذلها للاستجابة لفيروس كورونا، والتي تضمنت قرارات الإغلاق التام للمرافق المختلفة والإجراءات الصحية العامة التي من شأنها تطبيق التباعد الاجتماعي، مع ذلك فقد سجل العراق ما يقارب 154,000 حالة إصابة بفيروس كورونا (كوفيد-19) ، إضافة إلى تسجيل عجز في الموازنة يصل لقرابة 29٪ بسبب انهيار أسعار النفط، مع توقع حصول ركود اقتصادي بنسبة 9.7٪ تقريبًا مصحوبًا بزيادة الفقر بنسبة 40٪ بسبب فقدان الفرص الاقتصادية. تأخذ مختبرات التسريع الإنمائية كل هذه الظروف بنظر الاعتبار لغرض تعلم كيفية رسم خارطة للعوامل الاقتصادية الجديدة التي تساعد على خلق الفرص الاقتصادية. فكيف يمكننا إعداد شبابنا بشكل أفضل لمواكبة متطلبات سوق العمل المتغير، والأهم من ذلك كله كيف يمكننا تحقيق وخلق قيمة مضافة للاقتصاد العراقي؟
هنا سنغوص بعمق أكثر في عملية التعلم الفريدة التي نستخدمها وسوف نستكشف أجزائها - بما في ذلك منهجيات الاستكشاف الخاصة بنا ، بالإضافة إلى معرفة كيف يمكن لهذه المنهجيات أن تدعمنا في "إعادة البناء بشكل أفضل" في مجتمعاتنا، وكيف يمكن للشباب العراقيين من المشاركة في هذه العملية أيضاً!
الجزء الأول: على ماذا تلقي الضوء منهجيات الاستكشاف الخاصة بنا؟
تُعلمنا منهجيات الاستكشاف وإطار التبصر من استخدام البيانات المتاحة وتحليلها وإنتاج رؤى ترشدنا في طريقنا. ولغرض تأطير التحدي الذي يواجهه الشباب والبطالة وتحديد القضايا الرئيسية والظروف الحالية مع أصحاب المصلحة المعنيين بهذه المواضيع، عقد مختبر التسريع الإنمائي في العراق ورشتي عمل في كانون الأول 2019 لغرض مسح وتحديد الأنظمة ورسم المخطط السببي وبناء إطار الفرضية لتضييق نطاق التحدي الذي يواجهه الشباب والبطالة. مخرج التأطير هو التركيز بشكل خاص على "ضيق الرؤية في خيارات التوظيف" داخل أوساط الشباب العراقي. و قد نتج عن هذا التحليل تركيزاً خاصاً على الأوساط الأكاديمية باعتبارها العامل الرئيسي وراء القيود التي تُفرض على الشباب في خياراتهم المهنية، وكذلك وراء الفجوة الحالية بين المهارات المطلوبة في سوق العمل والمهارات التي تقدمها الأوساط الأكاديمية. ومن أجل التعمق في تحليل هذه القضية، قام مختبر التسريع الأنمائي التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق برسم المخطط السببي للقطاع الأكاديمي الحالي - الرسم التخطيطي يسمح بتَصور لكيفية ترابط المتغيرات المختلفة في القطاع الأكاديمي. تمت هذه العملية مع ستة ممثلين من الوزارات العراقية وتسعة ممثلين من بيئة ريادة الأعمال وأسفرت عن رؤى متعددة:
تسلسل ضيق الرؤية في خيارات التوظيف بين الأوساط الأكاديمية التي تقود عملية التعليم في العراق يؤثر على المهارات والمعرفة التي يكتسبها الطلاب، ويتضمن هذا التسلسل أربعة أجزاء رئيسية هي طرائق تدريس المناهج الدراسية والمعلمين والجامعات والطلاب.
بعد رسم المخطط السببي للأجزاء الأربعة السابقة، بدا من الواضح إن طرائق تدريس المناهج الدراسية هي النقطة الحاسمة التي توالت بعدها المسببات الأخرى، و نتيجة لذلك، هذه هي قاعدتنا التي ننطلق منها لتزويد الشباب بمزيد من المهارات لإيجاد فرصة في سوق العمل.
بعد أن تم تحديد النقطة الرئيسية للتدخل، أصبح دورنا كرؤساء الاستكشاف في مختبرات التسريع الأنمائية التابعة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي هو إجراء مسح لتحديد الجهود الحالية للتغيير، وتقييم حجم تأثيرها على تغيير النظام؛ لذلك، قمنا ببساطة بتنفيذ ما يسمى ب"مسح وتحديد إشارات التغيير". خلال عملية البحث عن التَوجهات الراغبة بتغيير الوضع الراهن وتحديد العوامل التي من شأنها كسر حلقة المخطط السببي، إن تفشي جائحة كورونا جعل الوضع أكثر ملائمة الآن لرسم مخطط إشارات التغيير في هذا الواقع الجديد وهو واقع الجائحة وتأثيراتها المتعددة في جميع أنحاء العالم!
الجزء الثاني: كيف كسرت جائحة كورونا حلقة المخطط السببي ل "ضيق الرؤية في خيارات التوظيف" داخل القطاع الأكاديمي؟
إن عملنا في الاستشعار والاستكشاف هو أمر ذو أهمية، ولكنه أصبح الآن أكثر أهمية في عالم فيروس كورونا وهو عالم سريع التغير. يعد استخدام البيانات ومسح وتحديد أصحاب المصلحة و إشارات التغيير وتوقع التغييرات المحتملة هو احدى الطرق للتعامل مع الوباء على أنه فرصة لغرض الكشف عن التحديات والفرص لتحدي الشباب والبطالة في العراق. ومن أجل زيادة تأثير مصادر التغيير هذه وإبلاغ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق بالخطوات التالية للتدخل، قام مختبر التسريع الأنمائي برسم خرائط نقاط التغيير لتحديد:
1. كيف سيبدو الواقع الجديد؟
2. ما هي الاحتياجات البارزة في القطاع الأكاديمي التي طرأت نتيجة الاستجابة لجائحة كورونا؟
3. كيف يمكن أن توفر هذه الظروف فرصة لكسر المخطط السببي الحالي ل "ضيق الرؤية في خيارات التوظيف"؟
استخدم مختبر التسريع الأنمائي كلاً من أساليب البحث المعتادة (عبر الإنترنت والمقالات والأبحاث وعمل المنظمات الأخرى) بالإضافة إلى الاجتماعات الشخصية. بدأت الاجتماعات بتحديد أصحاب المصلحة لتقديم رؤى - بما في ذلك أصحاب المصلحة من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووكالات التنمية والقطاع الخاص والمؤسسات الحكومية والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية ورجال الأعمال ومراكز الابتكار و مراكز البحث. أدت نتائج تحليل محتوى البحث والمناقشة إلى الكشف عن أربعة إشارات ضعيفة للتغيير وهي: ظهور التعلم الإلكتروني واستخدام طرائق افتراضية لبناء القدرات والتسوق عبر الإنترنت والدفع الإلكتروني. اذ تتمحورجميع هذه النقاط بشكل مباشر وغير مباشر حول التغيرات في القطاع الأكاديمي والشكل المستقبلي لسوق العمل في العراق. في الوقت الحالي سنركز على أبرز النقاط في جميع أبحاثنا الا وهي التعلم الإلكتروني.
ومن أجل الغوص عميقاً في بحثنا حول تأثير التعلم الإلكتروني على القطاع الأكاديمي خصوصاً فيما يتعلق بالعلاقة بين تنفيذ المنهج والتعلم الإلكتروني سوف نفترض التالي:
“ اذا تم استخدام التعلم الإلكتروني لكسر حلقة المخطط السببي، فحينئذ سوف تقوم الجامعات بتغيير طرائق التدريس، وبالتالي سَيتم تحسين جودة التعليم وإمكانية توظيف الخريجين.”
ومن أجل التحقق من صحة صلاحية أنشطة هذه الفرضية، بدأ مختبر التسريع الأنمائي بإجراء مناقشات ضمن مجاميع مركزة لجمع الملاحظات والمعلومات الداخلية. وقد أسفرت النتائج عن معلومات قيمة. أولاً، وجهت كل من المؤسسات التعليمية العامة والخاصة وجميع المدارس والجامعات بتسهيل التعلم في الفصول الدراسية عبر الإنترنت باستخدام صفوف غوغل الافتراضية، والاجتماعات التي تعقد من خلال برنامج زووم، والمكالمات الجماعية وغيرها من الأدوات لتحل محل طريقة التعلم داخل الفصل. ثانياً، قام المجتمع المحلي، وخاصة الشباب العراقي الطموح، باللحاق بالركب وتقديم حلول التعلم الإلكتروني الخاصة باحتياجات العراقيين، مثل منصة نيوتن ومنصة ناجح ومشروع رحلتي مع السادس.
مما سبق ، يمكننا أن نلاحظ أن استخدام التعلم الإلكتروني قد أدى إلى تحول في طرائق تدريس المناهج لكل من الأساتذة والطلاب؛ بدأ الأساتذة بإلقاء المحاضرات عبر الإنترنت واستخدام اساليب تقنية بالإضافة إلى تغيير في هيكلة أساليب التقييم الخاصة بالطلاب.إن الانقطاع عن الصفوف الدراسية يعد انقطاعاً مؤقتاً في حلقة المخطط السببي، لكن فترة الانقطاع هذه تحتاج إلى مزيد من التنظيم والتضمين المؤسساتي.
الجزء الثالث: من التعلم الإلكتروني إلى التعلم المدمج، كيف تدعمنا هذه المنهجيات في "إعادة البناء بشكل أفضل" لنظامنا التعليمي وفرص العمل المستقبلية؟
إن إشارات التعلم الإلكتروني بدأت بالظهور، لكنها ما زالت تعد إشارة ضعيفة حظت بهذا الكم من الاهتمام الكبير بسبب الوباء. والسؤال الآن هو كيف يمكننا الحفاظ على هذه الإشارة في حلقة المخطط السببي والاستفادة منها لتغيير توجيهات وطرائق تدريس المناهج الدراسية، مع العمل على إضفاء الطابع المؤسسي عليها؟
الخبر السار هو أن الوباء يوفر فرصة هائلة لتعزيز هذه الإشارة. وقد بدأنا بالفعل في رؤية جهود مازالت غير مترابطة ولكنها استراتيجية لإضفاء الطابع المؤسسي على التغيير في تدريس المناهج الدراسية.
لقد عقد مختبر التسريع الإنمائي التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي اجتماعين من أجل التباحث مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق للتحقق من صحة هذه الفرضية. وسلطت الاجتماعات الضوء على جهود التغيير في طرائق تدريس المناهج داخل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والجامعات الحكومية والأهلية. بدأت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الدعوة إلى التطوير التقني المعزز للمهارات التقنية والتكنلوجية للأساتذة الجامعيين، بغرض زيادة توطين التعلم الإلكتروني. كما بدأت الجامعات الأهلية ذات الموارد الأكبر في الاستثمار في البنى التحتية التكنولوجية من أجل تمهيد الطريق لتحول مستدام في طرق التدريس.
أدت كل هذه الجهود المتفرقة إلى تغيير في طرائق التدريس بشكل مؤقت، ولكنها أيضا حملت صفات لحدوث تغيرات دائمة نحو التعلم المدمج. يتضمن التعلم المدمج استخدام أساليب التدريس الصفية والوسائل المتصلة بالإنترنت. وقدر عبرت رئيس قسم التنمية والموارد البشرية في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي عن التزام الوزارة بإضفاء الصفة المؤسسية على التعلم المدمج حيث بينت "تهدف الوزارة إلى الانتقال إلى التعلم المدمج من أجل توفير وسيلة للتغلب على الصدمات المفاجئة التي تعرقل انسيابية عملية التعليم."
سترسم هذه الرقمنة سوية مع تغير هيكلة سوق العمل شكل مستقبل العمل في العراق. محصلة أدت إلى الاستنتاج: أن على المدى البعيد إذا ما تم إضفاء الطابع المؤسسي على هذا التغيير - مع الأخذ بنظر الاعتبار التغيرات المحتملة وتغيرات المستقبل والاستجابة السريعة - فقد لا نشهد انخفاضاً حاداً في نسبة البطالة فحسب، بل تغييراً في سلوك الطلاب وهيكلة سوق العمل. بالنسبة للطلاب، ستوفر الرقمنة او التعلم عن طريق الانترنت المزيد من فرص التعلم للفئات الأكثر ضعفاً، وتزيد من الرغبة نحو تعلم المهارات الرقمية التي يتزايد الطلب عليها في سوق العمل، مما سيعزز من انفتاح العراق على العالم. أما بالنسبة لسوق العمل، فسيؤدي ذلك إلى ارتفاع الطلب على المبتكرين الرقميين، والقوى العاملة الماهرة تقنياً، ومصممي البرامج والرسوم البيانية والمستشارين المهنيين. لكن الأهم من ذلك هو أن هذا يشجع المهنيين على تطوير مهاراتهم الخاصة دون الحاجة إلى عمل دائم والتحول نحو التوظيف الذاتي. بالنسبة للسوق ككل، فإن جميع الأشارات الضعيفة، التي تم تحديدها في العراق خلال جائحة فيروس كورونا، تؤسس حالة للتوجه نحو الرقمنة، والتي ينبغي أن تؤدي إلى مزيد من الكفاءة وتضيف قيمة اقتصادية.
في هذه المدونة، قام مختبر التسريع الأنمائي التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق بالتحقيق والبحث في الفرضية واستكشافها للتنبؤ قبل أي شخص آخر بأهمية التعلم المدمج؛ المرحلة التالية ستكون تجربة الفرضية والتحقق من صحة الفرضية من خلال تمهيد الطريق للتعليم المدمج. حالياً، تعمل وزارة التعليم العالي والتعليم العالي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي على تأسيس شراكة لتطوير خارطة طريق للتعليم المدمج في العراق.