لا تقلقوا، النفايات لا تهدر في هذا البلد" – نجيب عثمان
هذا ما قاله لنا صاحب معمل لاعادة تدوير البلاستيك أثناء تجولنا في معمله القائم في مدينة حلب. عندما بحثنا أكثر عن المعامل الأخرى التي تقوم بإعادة تدوير مواد مختلفة عن البلاستيك، أكد لنا صاحب المعمل وجود سوق كامل مخصص لمختلف المواد القابلة لإعادة التدوير في سوريا.
ولكن، ما مدى دقة هذا المعلومة؟ أيعقل أن تكون صحيحة؟ لا شيء يُهدر في سوريا !؟ دعونا نبدأ من اليوم الأول من مهمتنا التي تستغرق مئة يوم لفهم مشهد إعادة التدوير في سوريا بشكل عام مع التركيز على الممارسات والسلوكيات الحالية تجاه إعادة التدوير على المستوى المنزلي.
السبب الرئيسي لاهتمامنا بهذا الموضوع هو حقيقة انه كان يوجد مجموعة من الممارسات المرتبطة بإعادة التدوير التقليدية داخل المنازل السورية. فعلى سبيل المثال ، يتم تحويل زيت القلي المتبقي إلى صابون معطر محلي الصنع ،كما يتم استبدال كل خمس أوعية لبن بلاستيكية فارغة في البقالية بوعاء مليء باللبن، في حين يتم جمع الخبز القديم وقشور البيض لاستخدامها لاحقاً كعلف للدجاج او لصنع سماد عضوي.
في الواقع ، إن العديد من هذه الممارسات تعتبر مصدرا للربح، لدرجة أنه يوجد باعة متجولين اعتادوا أن ينادوا في الشوارع ويقرعوا الأبواب لشراء أدوات منزلية قديمة أو معطلة أو استبدالها بأخرى جديدة. فعلى سبيل المثال ، وفي كثير من الحالات لا يزال من الممكن استبدال كرسي بلاستيكي قديم مكسور، بآخر جديد مقابل مبلغ مالي بسيط. على الرغم من أن بعض هذه الممارسات لا تزال موجودة حتى اليوم ، إلا أنها محدودة النطاق والمدى بسبب الأزمة.
السبب الثاني لاهتمامنا بهذا الموضوع هو حقيقة كون الاهتمام بإعادة التدوير قد أخذ بالانخفاض ليصبح إلى حدما موضوعا مهملا في سوريا. ونظراً لتعرض البلاد لأزمة تفاقمت بسبب تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية ، لم تعد إعادة التدوير أولوية بالنسبة للعديد من السوريين. للأسف، إن معظم الموضوعات المتعلقة بالعمل المناخي أو البيئة لا تحظى بالاهتمام الكافي. من الجدير بالذكر أنّ ثمة عدد قليل من المبادرات المحلية والدولية التي قامت بتناول موضوع إعادة التدوير خلال السنوات الماضية ، غير أنها، إما اقتصرت على حملات توعية ، أو قدمت منشآت إعادة التدوير دون أن ترفقها بتعليمات مناسبة ما دفع الناس إلى استخدام هذه المنشآت بنفس الطريقة التي يستخدمون بها صنادبق النفايات العادية وبالتالي لم يتحقق الهدف المرجو منها.
من هذا المشهد ، وُلد التحدي ولكوننا مختبر التسريع الانمائي، كان لدينا بعض الأسئلة الثاقبة: ما الذي يتسبب في انخفاض الممارسات الخاصة بإعادة التدوير في ظل هذه الظروف الاستثنائية؟ وبناءً على الاقتباس المذكور أعلاه، كيف أدت هذه المشكلة إلى نمو قطاع غير رسمي؟ كيف نشجع الناس على العودة إلى ممارسات إعادة التدوير الإيجابية المتأصلة في المجتمع السوري؟ و ما التحديات التي تواجه الأشخاص الذين لديهم النية لإعادة التدوير ولكنهم لا يعرفون كيفية القيام به؟
للإجابة عن هذه الأسئلة ، احتجنا إلى النظر في إعادة التدوير ليس من منظورٍ منزليٍّ فحسب ولكن من منظور منظومي أيضاً. في النهاية تعتبر ممارسات إعادة التدويرجزءاً صغيراً من منظومة أوسع تبدأ بتوليد النفايات وتنتهي إما في مصنع إعادة التدوير أو مكب النفايات. يوجد ضمن هذه المنظومة سلاسل قيمة لمعظم النفايات القابلة لإعادة التدوير. علاوة على ذلك ، فإن العديد من هذه السلاسل تتميز في كونها بعيدة المدى ومتخصصة. غير أن المشكلة تكمن في كونها غير رسمية، تعمل في ظروف غير صحية وغير منظمة
إعادة تدويرٍ أن إعادة استخدام؟ هنا بكمن السؤال
"نحن لا نملك رفاهية رمي الاشياء ولا إعادة تدويرها" س.ت
كان لدينا الفضول لنتعرف على مزيد من الطرق التي يستخدمها الناس لإعادة استخدام المواد المعاد تدويرها. لذلك ، قمنا بإجراء مناقشات مركزة مع الأمهات ,لأنه اتضح لنا أن الأمهات هن المسؤولات عن إدارة النفايات في المنزل. قابلنا أيضًا عمال النظافة الذين قدموا لنا كل ما نحتاجه لمعرفة الأنواع المختلفة للنفايات المنزلية وايها الأكثر استخداما وما يحدث لها بعد إزالتها من حاويات الشوارع.
.للمفاجأة، اكتشفنا أنه وعلى الرغم من تضاؤل بعض الممارسات المنزلية التقليدية لإعادة التدوير، غير أن ممارسات جديدة وُلدت نتيجة الحاجة الاقتصادية للأسر ذات الدخل المنخفض. أبلغتنا إحدى النساء اللواتي قابلناهن أن إعادة التدوير هي للأغنياء و ليست للفقراء. "لا يستطيع الفقراء رمي أي شيء لا يزال بإمكانهم إعادة استخدامه".
تضمنت بعض الأمثلة التي ظهرت خلال المناقشات إعادة استخدام العلب البلاستيكية لتخزين المواد الغذائية وإعادة تعبئة مواد التنظيف وتخزين المياه العذبة. كان الاكتشاف المؤذي صحيا هو أن هؤلاء النساء يقمن بإحراق البلاستيك غير القابل لإعادة الاستخدام للتدفئة. أما زيت الطهي فقد قالت النساء أنهنّ يعدن استخدامه حتى يتبخر. كانوا مدركين تمامًا للعواقب الصحية للغازات السامة المطروحة من الحرق ، لكنهم قالوا أنهم لا يملكون خياراً آخراً ، ولا يمكنهم تحمل ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية. حتى النساء اللواتي قدمن من مناطق ذات ظروف معيشية أفضل صرحّن أنهن لا يمارسن إعادة التدوير ، لكنهنّ يقمن بإعادة الاستخدام.
قمنا أيضًا بمناقشة الدوافع التي من الممكن أن تشجع المجتمع على إعادة التدوير. من ناحية، أعربت النساء من الأسر ذات الدخل المتوسط بصراحة عن أن الشيء الوحيد الذي سيحفزهن على إعادة التدوير هو الحصول على شيء ما في المقابل "أعطنا شيئًا لنمنحك شيئًا" قالت إحدى النساء. لقد نظروا إلى إعادة التدوير على أنه عملٌ "لايستحق الجهد" ، "إنه عمل إضافي لا طائل منه". قالت امرأة أخرى: "في بعض الأحيان نفصل العبوات البلاستيكية عن أنواع النفايات الأخرى ، ولكن لا يوجد سوى سلة مهملات واحدة لكل شيء في منطقتنا ، لذلك ستنتهي القمامة في مكان واحد على أي حال".
عندما أشرنا إلى أن هناك عددًا قليلاً من صناديق إعادة التدوير في المدينة ، ردت النساء على الفور بأنهن لا يستخدمنها لأنهن لا يعرفن كيفية ذلك ، وحتى لو استخدموها ، فإن عمال النظافة البلدية سيفرغون صناديق إعادة التدوير في مكان واحد ، وبالتالي مجدداً "لما نهتم؟".
النفايات القيّمة: "مخلفات أحدهم هي كنزٌ للآخر"
ماذا يحدث للنفايات بعد رميها في صناديق النفايات؟ أظهرت كل من المراقبة المباشرة والمناقشات المركزة مع عمال النظافة أن هناك زيادة كبيرة في عدد جامعي النفايات غير الرسميين. جمع النفايات هو مصدر الدخل الجديد في المدينة! على الرغم من المخاطر الصحية العديدة التي تنجم عن التعامل مع النفايات، لا يزال بإمكانك رؤية النساء والرجال والأطفال وكبار السن وهم يخرجون الكنوز من صندوق نفايات الحي. العبوات البلاستيكية، الخراطيم البلاستيكية القديمة، العلب المعدنية، البطاريات، الصناديق الكرتونية الجافة، والعديد من المواد الأخرى "ذات القيمة" والقابلة للتبديل يتم إخراجها بمهارة من صندوق النفايات ووضعها في أكياس منفصلة.
يتم بعد ذلك بيع هذه النفايات المفصولة إلى نقطة تجميع النفايات المعروفة باسم "ورشة فرم النفايات". هناك سعر سوق متفق عليه لكل نوع من أنواع النفايات القابلة لإعادة التدوير التي تم جمعها. يرتفع هذا السعر وينخفض بناءً على حاجة السوق. يتم تحديد الحاجة والتحكم فيها من قبل مالكي المعامل أو مصدّري النفايات، الذين يشترون المواد القابلة لإعادة التدوير من ورشات فرم النفايات وتجميعها.
في حلب، قمنا بزيارة مواقع مختلفة متخصصة بجمع أو إعادة استخدام أو إعادة تدوير أو بيع مواد قابلة لإعادة التدوير. قمنا بزيارة مصانع إعادة الاستخدام ، ومحلات الورق المقوى المستعمل ، ومحطات تجميع البلاستيك ، وورشات العمل الفنية والخاصة بالحرف الورقية. جعلتنا هذه الزيارات ندرك أن معظم المواد القيّمة والقابلة لإعادة التدوير يتم إعادة تدويرها أو إعادة استخدامها، ما يعيدنا إلى الاقتباس في بداية المدونة. "لا تقلقوا، النفايات لا تهدر في هذا البلد".
يكمن السبب الرئيسي وراء الحاجة المتزايدة للمواد القابلة لإعادة التدوير في أنه وكما أوضح صاحب مصنع إعادة التدوير البلاستيكي ، " تزداد تكلفة شراء المواد الأولية مع مرور كل عام". قبل الأزمة والعقوبات الاقتصادية الأخيرة ، لم تكن إعادة التدوير تستحق الجهد المبذول، فبالنسبة للمصنعين كان استخدام المواد الخام، أرخص، يتطلب عملاً أقل مع ربحية أعلى. غير أنّ العقوبات الاقتصادية الحالية وقيود COVID-19 تجعل فرص الاستيراد محدودة وأكثر تكلفة. تم اتخاذ قرار اللجوء إلى المواد القابلة لإعادة التدوير من قبل الشركات المصنعة كحل بديل يمكن أن ينقذ عملها.
من الناحية البيئية، هذه أخبار جيدة! فإعادة التدوير تعني استخدام موارد خام وطبيعية أقل ، نسبة قطع أشجارأقل، واستهلاك مياه وطاقة أقل ، مما يخفض كمية النفايات. ومع ذلك ، يجب أن تكون هناك طريقة للقيام بإعادة التدوير بشكل أفضل مع مخاطر صحية أقل
لتلخيص ما تعلمناه من رحلتنا الاستكشافية. لا يقوم الناس بإعادة التدوير ولكنهم يعيدون استخدام المواد القابلة لإعادة التدوير. لا توجد بنية تحتية رسمية مناسبة لإعادة التدوير في المدينة. "المخلفات ذات القيمة" تأتي من الجانب الغني للمدينة وليس من الجانب الفقير. زاد عدد جامعي النفايات (النباشين) بشكل ملحوظ خلال السنوات القليلة الماضية. تقريباً يوجد سوق لكلّ النفايات القابلة لإعادة التدوير.
ما مصير المخلفات غير القيمة؟ إلى أين نتجه من هنا؟
المشكلة الحقيقية على مستوى المنازل هي المنتجات ذات القيمة القليلة أو المعدومة والتي يصعب جمعها. وبالتالي ، فإنها تسبب أكبر تلوث بيئي وتوفر فرصة لمعالجة الممارسات والسلوكيات الأساسية تجاه إعادة التدوير مثل عبوات المياه البلاستيكية الخفيفة والأكياس البلاستيكية وزيت الطهي وأغلفة المواد الغذائية.
من الآن فصاعدًا ، سيركز استكشافنا على مسح الممارسات والسلوكيات الحالية للأشخاص بشأن إعادة التدوير المنزلي ونوع الحوافز التي يهتمون بها. بعد ذلك ، سوف نستخدم الرؤى السلوكية كفلسفة لتصميم مجموعة من التجارب تحت شعار جعل إعادة التدوير المنزلية أكثر متعة و ربحا. ترقبوا مدونتنا التالية!